الأولمبياد في باريس: بين الحرية والازدواجية

Published on 1 August 2024 at 13:14

عندما تنجح باريس بأن تتحول إلى مسرح للجدل العالمي

لاقى حفل افتتاح الأولمبياد في باريس الكثير من الانتقادات حول العالم، خصوصاً بسبب مشهدي "العشاء الأخير" وماري أنطوانيت حاملة رأسها. قد يكون من الممكن تفهم مشاعر الغضب واللارتياح التي قد تنشأ عند المس بأي معتقد أو .رمز ديني، أو كل ما هو خارج عن المألوف الاجتماعي، لكن هذا يختلف عندما يأتي من باريس

فماذا يتوقع المرء من العاصمة التي لطالما عُرفت بأنها قلب الثورة والثقافة والفنون في العالم؟ باريس لم تكن يوماً سوى باريس، ولم تدّعِ غير ذلك. هي المدينة التي شهدت أعظم وأعنف الثورات في العصر الحديث، والتي ولدت منها مدارس الفنون المعاصرة التي كسرت بلا خوف حدود الكلاسيكيات. المدينة التي تمردت شوارعها على الطبقة الأرستقراطية والكنيسة بحد المقصلة، وبنت جمهوريتها على أسس الحرية التي قد لا تتنازل عنها بسهولة. ليس غريباً أن يأتي افتتاح الأولمبياد ليعكس روحها الثورية الإبداعية.

هل كانت باريس لتظل باريس لو كان حفل افتتاحها يقتصر على ملعب تقليدي وبعض اللوحات الراقصة؟ إذا ما ابتعدنا قليلاً عن الآراء الشخصية، نجد أن إثارة كل هذا الجدل والغبار يجسد حقيقة باريس ودورها في تحريك المياه الراكدة. جمع التاريخ والثورة والدين والفن والرياضة في مشهد واحد هو أمر لا يمكن أن يحدث إلا فيها.

استبعاد روسيا: هل تخلت الأولمبياد عن روحها الرياضية؟

ما كان جديراً بالانتقاد برأيي هو إدخال السياسة إلى المشهد واستبعاد الفريق الروسي، حيث سمح لقلة من الرياضيين بالمشاركة بشكل فردي وحياد دون رفع الأعلام الروسية أو تمثيل لروسيا بعد التأكد من عدم ضلوعهم بأي نشاط سياسي أو عسكري يدعم الغزو الروسي لأوكرانيا. لا يتماشى مع هذا الاستبعاد الظالم للرياضيين الذين لا يسعون سوى للمنافسة مع الروح الحقيقية للأولمبياد. فالألعاب الأولمبية القديمة في أثينا كانت تجسد روح المنافسة الشريفة والاحترام المتبادل بين المتسابقين، وكانت هناك فترة من السلام تُعرف بـ "الهدنة الأولمبية، حيث تُعلّق الحروب والنزاعات خلال فترة الألعاب. هذا النوع من العقوبات الجماعية يتنافى مع حقوق الإنسان أيضاً، وإذا لم تعلو القوة السلمية للرياضة على صوت الحروب، فما الرسالة التي تحملها الأولمبياد؟

في ذات الوقت، تشارك إسرائيل في الأولمبياد على الرغم من تاريخها الموثق دولياً بارتكاب جرائم حرب، مثل عملية الرصاص المصبوب وعملية الجرف الصامد، وممارسات أخرى في الضفة الغربية. الأسوأ أن الإبادة مستمرة في غزة، حيث لا يستغرق الأمر سوى ضغطة زر لتنتقل من مشهد النور في باريس إلى مشهد النار في غزة. كما أن الجمهورية العربية السورية تشارك على الرغم من التحقيقات القضائية الفرنسية التي فتحت بشأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية والاعتقالات التعسفية والتعذيب، موثقة بصور قيصر.

هنا، نرى الإنسان الغربي ينصب نفسه حكماً وحاكماً، يقرر منح الأذن والشرعية وفق معاييره الخاصة. ألم يكن الأجدى أن يشارك الجميع، وتتوحد الرياضة الإنسانية، وهو ما عجزت عن تحقيقه طاولات المفاوضات لعقود طويلة؟

 

تدين فرنسا بالاعتذار للمسلمين اليوم: ازدواجية المعايير في دفاع باريس عن حرية التعبير

لا تقتصر ازدواجية باريس على ذلك فقط، بل تشمل أيضاً الاعتذار الذي قدمه منظمو دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس للكاثوليك ولطوائف مسيحية أخرى بسبب لوحة "العشاء الأخير". في حين لم تعتذر فرنسا أو مجلة "شارلي إبدو" عن الرسوم الكاريكاتيرية التي أغضبت ملايين المسلمين حول العالم، مدافعةً عن حرية التعبير بشكل مطلق. يبدو أن لليمين المتطرف اليوم صوتاً لا يمكن تجاهله، وقد تعلو سطوته في السنوات القادمة على مبادئ الجمهورية.

وفي النهاية، بينما تسعى باريس إلى التأكيد على مكانتها كمركز للإبداع والثورة، فإن تناقضاتها تبرز التحدي في موازنة الحرية والعدالة. هل يمكن لمدينة ثورية أن تظل وفية لمبادئها  بينما تسهم في خلق فجوات أعمق بين البشر؟ ربما تحتاج باريس إلى إعادة النظر في ممارستها للمساواة والأخوة  كما الحرية، كي لا يتحول المشهد إلى مجرد تراجيديا جديدة على غرار مشهد دافنشي.

 

Add comment

Comments

There are no comments yet.

Create Your Own Website With Webador